الاهداء : الى الى روح من أنشد في أذني أناشيد النضال ، ورسم في مخيلتي الكره لفرنسا وزرع في قلبي الصغير حب الثورة والتاريخ الى الشيخ نوار ح رحمه الله.
لفت الغيوم سماء المدينة هذا الصباح ، فلم تكد تصبح الساعة السابعة حتى شكلت الامطار المتهاطلة بين السماء والأرض خيوطا لا تنقطع ، لم يعد للأرجل مكان في هذا الجو المضطرب ، ولا وسط هذا الشارع المهتز الا بعضا من أصحاب المطريات أو تلك السيارات التي تظهر من حين لآخر .
بصوت الأمطار المتساقطة ، والرياح العاصفة امتزج ضجيج أطفال مدرسة هذا الشارع ، فبين هؤلاء التلاميذ الذين تجمعوا أمام أبواب أقسامهم متقين الأمطار ، طاف هو حاملا غصن زيتون . على بعد بضع خطوات وقف يترقب المجموعة الأولى من الأطفال ، وقد بعثوا بكلمات حماسية وحركات مستمرة وصفوا بها لقطات اللاعب - ماجر -وزملائه المأخوذة من مقابلة البارحة.
- انظروا ..انظروا - مناد- يقذف الكرة هكذا ... نحو-
بلومي- الذي رماها الى - ماجر- فخادع الحارس بضربة
مقصية .
ترك تلاميذ الطور الثاني ولعهم بالكرة ، وواصل سيره المثقل الى أن وقفت به الخطوات هذه المرة بالقرب من أبناء الطور الأول الذين أشاروا عليه بأصابعهم .
- انه حارس مدرستنا الجديد .
كان سيستريح قرب هؤلاء الذين صبغ حديثهم بكلمات من حلقة الرسوم المتحركة ، لولا ظهور طفلان بينهم وهما يستعدان للقيام بحرب شجار حادة بعد الخروج من المدرسة ، فمن الكلمات القليلة التي وصلت سمعه الضعيف استخلص أن ذلك نتيجة لخلاف الالعهد من أحدهما.
- جيل غريب .. أطفال لا أذكياء لا يراوغون يحاربون من يخالفهم العهد ، وقد كنا نحن شعبا بأكمله حين قطعت علينا - فرنسا - وعد الاستقلال الكاذب الذي سرنا لأجله الأيام واللالي جوعا وعطشا وتعبا لتنتصر هي على - ألمانيا - ويكون بعذه الاستقلال للجزائر .
دفعته جملة الوصف تلك ليبحث بين طيات ذاكرته التي ربما لاتزال تحمل له بعض اللحظات الهامة من تاريخ حياته الذي كتبته الأقدار بحبر من دم وعبارات من أححزان ، فلولا الحاح ابنه - عمار - الذي تزوج منذ أيام واستقر بالهجرة معه الى المدينة ما ترك الأرض التي بنى بخيراتها مستقبل ولده .
ألف البقاء بينه ، آنسه حب حفيدته ، فلم يعد يقدر على مفارقتهم حتى الأرض فهو لا يفكر في الرجوع اليها ، مع حفيدته الصغرى - نادية -كان يقضي جل أوقاته ، فتظل تمارس عليه دور المدرسة ، تلقنه ما تعلمته من أختها من حروف وعبارات ، أو يقضيان نهارهما في حديقة البيت يغرسان أشجار الورود ويقلمان أرضها ويسقيان تربتها .
الوقت صباحا وعمر - نادية - يدق أبواب الخامسة ، خرج والدها الى عيادته وأختهاإلى المدرسة ، بينما ذهبت أمها إلى السوق لتشتري لوازم حفلة عيد الميلاد . مر الزمن ما شاء إلى أن رن جرس الهاتف فأتيحت الفرصة - لنادية - في الرد ، لكن المتكلم من هناك يطلب منها بأن تنادي أمها أو أي أحد يكون أكبر منها سنا .
جاء دوره ، إنها المرة الأولى في حياته التي سيستعمل فيها الهاتف ، فليت الدور لم يأت عليه ، فهو لم يسمع عبره إلا النعي والعزاء ، لأن إبنه الوحيد كما أعلموه قد رحل إلى الأبد بعد حادث مرور ، و إشتدت الأيام حزنا ومرارة لما أبعدت زوجة أبنه حفيدتيه.
دق الجرس معلنا الدخول ، فهز الشيخ رأسه ينفض تلك الصور من مخيلته وخرج من بينهم متجها إلى غرفته التي أحتلت جزءا بسيطا من حديقة المدرسة ، مباشرة تسمر وراء نافذتها يمتع نظره الضعيف بهذا الإبداع الإلهي الجميل الذي لا تغفل عين عن رأيته ولا يشمئز قلب لسماعه ، بل تهلل أفئدة الفلاحين و تفيض مقلتيهم فرحة وبشرى.
لم تتح قطرات المطر التي كانت تنساب على زجاج النافذة بعد أن تقرع عليه فيرسل لحنا شجيا فرصة توضح وجهه الأشقر المجعد وعيناه الزرقاوتين كما تظل عمامته تمنع رؤية شعيرات رأسه البيضاء القصيرة .
في هذا اليوم الممطر ، رن هاتف المدرسة في غرفته لكن قرر بأن لا يرد و دفعته نفسه المجنونة الى الخارج حيث تراءت له حفيدته - نادية - خلف النافذة وهي تصارع العاصفة محاولة اجتياز الطريق نحو المدرسة فأسرع يستقبلها وعلى وجهه إشراقة واضحة ، لم يحزن لأن الطفلة لم تكن حفيدته كما تصور لكن كانت تشبهها تماما .
23/06/1987
براني وفاءنشر في الموقع بتاريخ : الخميس 10 شوال 1432هـ الموافق لـ : 2011-09-08