كنت أرقبهم من خلف زجاج نافدتي المطلة على الشارع الرئيس وهم يتجهون صوب مراكز امتحان البكالوريا و كم ّهائل من الأسئلة يزاحم مذاق القهوة في فمي ويعكر صفو هذا الصباح الجميل .
ما قيمة هذا اليوم في حياة هؤلاء الطلبة ؟ وهل أعدوا له العدة وجهزوا له ما يكفيه من الردود و المعارف التي اكتسبوها على مدار سنوات من الدراسة والتحصيل ؟
هل اعتبره هؤلاء المتجمهرين أمام أبواب المؤسسات منذ الصباح الباكر امتحانا مصيريا في حياتهم، ينقلهم من مرحلة إلى مرحلة جديدة؟
هل اعتبر هؤلاء الطلبة هذا اليوم عتبة مهمة في مسار مستقبلهم بكل الحمولة التي أفرغوها فيه من العلم والمعرفة ومكاسب التحصيل التي غرفوا منها في سنوات الدراسة الماضية؟ أم لازال هاجس العتبة يرن في آذانهم فتوقف التحصيل المعرفي عندها ولم تتعداه إلى غيرها ؟
هل تحركت الأذهان وشحذت الهمم من أجل الخروج من هذا الامتحان وقناعة الانتصار على الأسئلة تفوق قناعتهم بأن هذا اليوم هو يوم استعراض للثياب وتصفيف الشعر وآخر جيل للهواتف المحمولة (النقالة) والنظارات (الخاصة ) والأقلام( المتميزة)؟
قد أبدو متحاملة على هذا اليوم أو على الممتحنين ( المستعرضين) فيه لكن حقيقة الأمر أن ما عشته وعايشته من خروج عن حقيقة ما ينبغي أن يكون هو الذي دفعني للكتابة .
تقول لي إحدى صديقاتي عن ابنتها التي قررت اجتياز الامتحان هذا العام بعد انقطاع عن الدراسة النظامية وتفضيل المشاركة الحرة وهي عادة صار يسلكها السواد الأعظم من طلبتنا
ما رأيك في نسبة و مستوى تحصيلها الدراسي لأنها تجزم بأن النجاح سيكون حليفها وأن إحساسها بفرحة الفوز غامر؟
ابتسمت وأنا أردد: بجد لا أدري . قضيت ما يقارب الثلاثين عاما لأكتشف أن تكهنات التلاميذ بالنجاح أقوى بكثير من خبرتي ،لأنهم في نهاية المطاف سيفوزون بطريق أو بأخرى وأن نتائج الامتحان لن تعكس بحق المجهود الذي بدل خلال سنوات عديدة من الدراسة ؛ فكثيرا ما كانت نتائجهم خلال مرحلة الثانوي ضعيفة ولم يكن "إنجاحهم" من سنة إلى أخرى إلا تفاديا للاكتظاظ الذي ابتليت الأقسام به أما عامهم الأخير فحدث ولا حرج، لكنك تجدهم في نهاية المطاف من الناجحين بملاحظة مقبول أو حسن لذلك وجدتُني دون مستوى مسألة التكهن وأن ما تقوله هذه الصغيرة قد يكون صحيحا فلنسلم بما تقول وننتظر النتيجة؟
تقول لي إحدى النجيبات ـ كانت قد منيت بالفشل في عامها الأول ـ وما عهدت عنها غير الصدق فيما تقول ـ أن زميلة لها تعول على نظارات خاصة اقتناها الأب لأبنائه من" الخارج"بهدف تسهيل عملية الغش وحين سألتها عن ثمنها وأجابتني صعقتُ فالثمن خرافي قد يساعد كثير من المرضى المحتاجين على إجراء عمليات جراحية مع ثواب أعظم .وقد يساعد الكثير من الفقراء الجادين والمجتهدين على الحصول على لوازم التعلم من كتب وأقلام وحواسب إلخ.
قد يكون الخبر عار من الصحة وأنه مجرد حديث وهمي فيه الكثير من فخر الشباب أو عزة بالإثم تأخذ المتعثرين أو الفاشلين لكن الحقيقة هي ما يدور في أذهان هؤلاء المقبلين على الامتحانات وما الكيفية التي يجهزون بها أنفسهم لاجتياز امتحانهم والأغرب من هذا هو دوامة القلق التي تدخلها الأمهات وفزع الترقب الذي يأسر تفكيرهن وكأنهن المعنيات الرئيسات بالبكالوريا أو أن النجاح هو نجاحهن؛ والأدهى من هذا مسارعة الأهالي إلي تحضير ولائم الفرح بالنجاح إما تحضيرا مسبقا وإما تحضيرا خرافيا بعد ظهور النتائج رغم علمهم بحقيقة مصادر هذا الفوز الزعوم.
لست من المتشائمين ولست ممن يحلو لهم تعكير أجواء الفرح كلما برقت له بارقة ،لكنني أحاول الموازنة بين ما هو واقع وبين ما ينبغي أن يقع ،أحاول البحث عن حلقة مفقودة بين ثقافة العرض المعرفي في يوم أو أيام البكالوريا وثقافة الاستعراض الذي يحدث أيامها،سواء من طلبتنا أو من أهاليهم .
إن حقيقة البكالوريا كما هو معروف هي عرض لمقدرة الفكر على استرجاع خبرة معرفية وتخزين علمي واستثمار سلوكي أخلاقي تم بناءه على مر سنوات من عمر الطالب وليس استعراض ظرفي عابر يشبع النزوات الشبابية الجامحة المشحونة بأفكار الطيش والاستهتار تحت رعاية أهلية أقل ما يقال عنها أنها معجونة بكثير من استغباء الأبناء لآبائهم وأمهاتهم
والسؤال هنا هو :لم يتم تفضيل ثقافة الاستعراض على ثقافة العرض ؟ وهل جهلنا ، أو تجاهلنا لخطورة هذا السلوك، الذي يضيف حرفا إلى سطر تكريس الرداءة التي صارت عنوان هويتنا الراهنة، هو الذي سيأخذ بأيدي أبناءنا إلى اجتياز أصعب العتبات أو ولوج أصعب المحكات في حياتهم ؟
إنه السؤال الذي كدر نكهة قوتي هذا الصباح فنسيت أن أضع بدله قطعة سكر تحلّيه فربما كان هذا اليوم هو اليوم الوحيد الذي أملى علي عنوة انتصاره في الامتثال لنصائح الطبيب الآمرة بالعزوف عن السكر.
نشر في الموقع بتاريخ : الأحد 3 شعبان 1435هـ الموافق لـ : 2014-06-01